فصل: تفسير الآيات (28- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (28- 32):

{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)}
هذه مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فيها توعد لقريش إذ هذا هو المروع لهم من المثال، أي ينزل بهم من عذاب الله ما نزل بقوم حبيب النجار، فنفى عز وجل، أي أنه ما أنزل على قوم هذا الرجل {من جند من السماء}، فقال مجاهد: أراد أنه لم يرسل رسولاً ولا استعتبهم، قال ابن مسعود: أراد لم يحتج في تعذيبهم إلى جند من جنود الله تعالى كالحجارة والغرق والريح وغير ذلك بل كانت صيحة واحدة لأنهم كانوا أيسر وأهون من ذلك، قال قتادة: والله ما عاتب الله تعالى قومه بعد قتله حتى أهلكهم، واختلف المتأولون في قوله: {وما كنا منزلين}، فقالت فرقة {ما كنا منزلين}، {ما} نافية وهذا يجري مع التأويل الثاني في قوله، {ما أنزلنا من جند}، وقالت فرقة {وما} عطف على {جند} أي من جند ومن الذي كنا منزلين على الأمم مثلهم قبل ذلك، وقرأ الجمهور {إلا صيحةً} بالنصب على خبر كان، أي ما كان عذابهم إلا صحية واحدة، وقرأ أبو جعفر ومعاذ بن الحارث {إلا صيحةٌ} بالرفع، وضعفها أبو حاتم، والوجه فيها أنها ليست كان التي تطلب الاسم والخبر، وإنما التقدير ما وقعت أو حدثت إلا صحية واحدة، وقرأ ابن مسعود وعبد الرحمن بن الأسود إلا زقية {وهي الصيحة} من الديك ونحوه من الطير، و{خامدون} ساكنون موتى لاطئون بالأرض شبهوا بالرماد الذي خمدت ناره وطفئت، وقوله: {يا حسرة} نداء لها على معنى هذا وقت حضورك وظهورك هذا تقدير نداء مثل هذا عند سيبويه، وهو معنى قويم في نفسه، وهو نداء منكور على هذا القراءة، قال الطبري: المعنى يا حسرة العباد على أنفسهم، وذكر أنها في بعض القراءات كذلك، وقال ابن عباس: يا ويلا العباد، وقرأ ابن عباس والضحاك وعلي بن الحسين ومجاهد وأبي بن كعب {يا حسرةَ العبادِ}، بإضافتها، وقول ابن عباس حسن مع قراءته، وتأويل الطبري في ذلك القراءة الأولى ليس بالبين وإنما يتجه أن يكون المعنى تلهفاً على العباد، كأن الحال يقتضيه وطباع كل بشر توجب عند سماعه حالهم وعذابهم على الكفر وتضييعهم أمر الله تعالى أن يشفق ويتحسر على العبادة، وقال أبو العالية: المراد ب {العباد} الرسل الثلاثة، فكأن هذا التحسر هو من الكفار حين رأوا عذاب الله تلهفوا على ما فاتهم، وقوله تعالى: {ما يأتيهم} الآية، يدافع هذا التأويل، والحسرة التلهفات التي تترك صاحبها حسيراً، وقرأ الأعرج بن جندب وأبو الزناد {يا حسرة} بالوقف على الهاء وذلك للحرص على بيان معنى التحسر وتقريره للنفس، والنطق بالهاء في مثل هذا أبلغ في التشفيق وهز النفس كقولهم: أوه ونحوه، وقوله: {ما يأتيهم من رسول} الآية، تمثيل لفعل قريش ثم عناهم بقوله: {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون}، و{كم} هنا خبرية، و{أنهم} بدل منها، والرؤية رؤية البصر، وفي قراءة ابن مسعود {أو لم يروا من أهلكنا}، وقرأ جمهور القراء {أنهم} بفتح الألف، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {إنهم} بكسرها، وقرأ جمهور الناس {لما جميع} بتخفيف الميم وذلك على زيادة {ما} للتأكيد، والمعنى لجميع، وقرأ الحسن وابن جبير عاصم لمّا بشد الميم، قالوا هي منزلة منزلة إلا، وقيل المراد لمما حذفت الميم الواحدة وفيها ضعف، وفي حرف أبيّ وإن منهم إلا جميع، و{محضرون} قال قتادة: محشرون يوم القيامة.

.تفسير الآيات (33- 36):

{وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)}
{وآية} معناه علامة على الحشر وبعث الأجساد، والضمير في {لهم} يراد به كفار قريش، وقرأ نافع وشيبة وأبو جعفر، {الميِّتة} بكسر الياء وشدها، وقرأ أبو عمرو وعاصم {الميْتة} بسكون الياء، وإحياؤها بالمطر، وقرأ جمهور الناس {من ثَمَره} بفتح الثاء والميم، وقرأ طلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي {من ثُمُرة} بضمهما، وقرأ الأعمش {من ثُمْره} بضم الثاء وسكون الميم، والضمير في {ثمره} قالت فرقة هو عائد على الماء الذي يتضمنه قوله: {وفجرنا فيها من العيون} لأن التقدير ماء، وقالت فرقة هو عائد على جميع ما تقدم مجملاً، كأنه قال: من ثمر ما ذكرنا، وقال أبو عبيدة: هو من باب أن يذكر الإنسان شيئين أو ثلاثة ثم يعيد الضمير على واحد ويكني عنه، كما قال الشاعر، وهو الأزرق بن طرفة بن العمرد القارضي الباهلي: [الطويل]
رماني بذنب كنت منه ووالدي ** بريئاً ومن أجل الطويّ رماني

قال القاضي أبو محمد: وهذا وجه في الآية ضعيف، و{ما} في قوله تعالى: {وما عملته أيديهم} قال الطبري: هي اسم معطوف على الثمر أي يقع الأكل من الثمر ومما عملته الأيدي بالغرس والزراعة ونحوه، وقالت فرقة: هي مصدرية وقيل هي نافية، والتقدير أنهم يأكلون من ثمره وهي شيء لم تعمله أيديهم بل هي نعمة من الله عليهم، وقرأ جمهور الناس {عملته} بالهاء الضمير، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وطلحة وعيسى {عملت} بغير ضمير، ثم نزه نفسه تعالى تنزيهاً مطلقاً في كل ما يلحد به ملحد أو يشرك مشرك، و{الأزواج} الأنواع من جميع الأشياء، وقوله تعالى: {ومما لا يعلمون} نظير قوله: {ويخلق ما لا تعلمون} [النمل: 8].

.تفسير الآيات (37- 40):

{وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}
هذه الآيات جعلها الله عز وجل أدلة على القدرة ووجوب الألوهية له، و{نسلخ} معناه نكشط ونقشر، فهي استعارة، و{مظلمون} داخلون في الظلام، واستدل قوم من هذه الآية على أن الليل أصل والنهار فرع طارٍ عليه، وفي ذلك نظر، ومستقر الشمس على ما روي في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أبي ذؤيب «بين يدي العرش تمجد فيه كل ليلة بعد غروبها»، وفي حديث آخر «أنها تغرب في عين حمئة ولها ثم وجبة عظيمة»، وقالت فرقة: مستقرها هو في يوم القيامة حين تكون فهي تجري لذلك المستقر، وقالت فرقة: مستقرها كناية عن غيوبها لأنها تجري كل وقت إلى حد محدود تغرب فيه، وقيل: مستقرها آخر مطالعها في المنقلبين لأنهما نهاية مطالعها فإذا استقر وصولها كرت راجعة وإلا فهي لا تستقر عن حركتها طرفة عين، ونحا إلى هذا ابن قتيبة، وقالت فرقة: مستقرها وقوفها عند الزوال في كل يوم، ودليل استقرارها وقوف ظلال الأشياء حينئذ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وعكرمة، وعطاء بن أبي رباح وأبو جعفر ومحمد بن علي وجعفر بن محمد، {والشمس تجري لا مستقر لها}، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والحسن والأعرج {والقمرُ} بالرفع عطفاً على قوله: {وآية لهم الليل} عطف جملة على جملة ويصح وجه آخر وهو أن يكون قوله: {وآية} ابتداء وخبره محذوف، كأنه قال: في الوجود وفي المشاهدة، ثم فسر ذلك بجملتين من ابتداء وخبر وابتداء وخبر، الأولى منهما {الليل نسلخ منه النهار}، والثانية {والقمر قدرناه منازل}، وقرأ الباقون {والقمرَ قدرناه} بنصب القمر على إضمار فعل يفسره {قدرناه} وهي قراءة أبي جعفر وابن محيصن والحسن بخلاف عنه، و{منازلَ} نصب على الظرف، وهذه المنازل المعروفة عند العرب وهي ثمانية وعشرون منزلة يقطع القمر منها كل ليلة أقل من واحدة فيما يزعمون، وعودته هي استهلاله رقيقاً، وحينئذ يشبه العرجون وهو الغصن من النخلة الذي فيه شماريخ التمر فإنه ينحني ويصفر إذا قدم ويجيء أشبه شيء بالهلال قاله الحسن بن أبي الحسن، والوجود تشهد به، وقرأ سليمان التيمي {كالعِرجون} بكسر العين، و{القديم} معناه العتيق الذي قد مر عليه زمن طويل، و{ينبغي} هنا مستعملة فيما لا يمكن خلافه لأنها لا قدرة لها على غير ذلك، وقرأ الجمهور {سابقُ النهارِ} بالإضافة، وقرأ عبادة {سابقُ النهار} دون تنوين في القاف، وبنصب {النهارَ} ذكره الزهراوي وقال: حذف التنوين تخفيفاً، والفلك فيما روي عن ابن عباس متحرك مستدير كفلكة المغزل من الكواكب، و{يسبحون} معناه يجرون ويعومون، قال مكي: لما أسند إليها فعل من يعقل جمعت الواو والنون.

.تفسير الآيات (41- 46):

{وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)}
{آية} معناه علامة ودليل، ورفعها بالابتداء وخبره في قوله: {لهم}، و{أنا} بدل من {آية} وفيه نظر، ويجوز أن تكون {أن} مفسرة لا موضع لها من الإعراب، والحمل منع الشيء أن يذهب سفلاً، وذكر الذرية لضعفهم عن السفر فالنعمة فيهم أمكن، وقرأ نافع وابن عامر والأعمش {ذرياتهم} بالجمع، وقرأ الباقون {ذريتهم} بالإفراد، وهي قراءة طليحة وعيسى، والضمير المتصل بالذريات هو ضمير الجنس، كأنه قال ذريات جنسهم أو نوعهم هذا أصح ما اتجه في هذا، وخلط بعض الناس في هذا حتى قالوا الذرية تقع على الآباء وهذا لا يعرف لغة، وأما معنى الآية فيحتمل تأويلين: أحدهما قاله ابن عباس وجماعة، وهو أن يريد بـ الذريات المحمولين أصحاب نوح في السفينة، ويريد بقوله: {من مثله} السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة، وإياها أراد الله تعالى بقوله: {وإن نشأ نغرقهم}، والتأويل الثاني قاله مجاهد والسدي وروي عن ابن عباس أيضاً هو أن يريد بقوله: {أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} السفن الموجودة في بني آدم إلى يوم القيامة ويريد بقوله: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} الإبل وسائر ما يركب فتكون المماثلة في أنه مركوب مبلغ إلى الأقطار فقط، ويعود قوله: {وإن نشأ نغرقهم} على السفن الموجودة في الناس، وأما من خلط القولين فجعل الذرية في الفلك في قوم نوح في سفينة وجعل {من مثله} في الإبل فإن هذا نظر فاسد يقطع به قوله تعالى: {وإن نشأ نغرقهم} فتأمله، و{الفلك} جمع على وزنه هو الإفراد معناه الموفر، و{من} في قوله: {من مثله}، يتجه على أحد التأويلين: أن تكون للتبعيض، وعلى التأويل الآخر أن تكون لبيان الجنس فانظره، ويقال الإبل مراكب البر، والصريخ هنا بناء الفاعل بمعنى المصرخ، وذلك أنك تقول صارخ بمعنى مستغيث، ومصرخ بمعنى مغيث، ويجيء {صريخ} مرة بمعنى هذا ومرة بمعنى هذا لأن فعيلاً من أبنية اسم الفاعل، فمرة يجيء من أصرخ ومرة يجيء من صرخ إذا استغاث، وقوله: {إلا رحمة} قال الكسائي نصب {رحمةً} على الاستثناء كأنه قال إلا أن يرحمهم رحمة، وقال الزجاج: نصب {رحمة} على المفعول من أجله كأنه قال: إلا لأجل رحمتنا إياهم، و{متاعاً} عطف على {رحمة}، وقوله: {إلى حين}، يريد إلى آجالهم المضروبة لهم.
قال القاضي أبو محمد: والكلام تام في قوله: {وإن نشأ نغرقهم} {فلا صريخ لهم} استئناف إخبار عن السائرين في البحر ناجين كانوا أو مغرقين فهم بهذه لا نجاة لهم إلا برحمة الله وليس قوله: {فلا صريخ لهم} مربوطاً بالمغرقين، وقد يصح ربطه به والأول أحسن فتأمله، ثم ابتدأ الإخبار عن عتو قريش بقوله: {وإذا قيل لهم} الآية، وما بين أيديهم قال مقاتل وقتادة، هو عذاب الأمم الذي قد سبقهم في الزمن وما خلفهم هو عذاب الآخرة الذي يأتي من بعدهم في الزمن وهذا هو النظر، وقال الحسن: خوفوا بما مضى من ذنوبهم وبما يأتي منها.
قال القاضي أبو محمد: فجعل الترتيب كأنهم يسيرون من شيء إلى شيء، ولم يعتبر وجود الأشياء في الزمن، وهذا النظر يكسره عليه قوله تعالى: {مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل} [المائدة: 46]، وإنما المطرد أن يقاس ما بين اليد والخلف بما يسوقه الزمن فتأمله، وجواب {إذا} في هذه الآية محذوف تقديره أعرضوا يفسره قوله بعد ذلك {إلا كانوا عنها معرضين}، والآيات العلامات والدلائل.

.تفسير الآيات (47- 50):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)}
الضمير في قوله: {لهم} لقريش، وسبب الآية أن الكفار لما أسلم حواشيهم من الموالي وغيرهم من المستضعفين قطعوا عنهم نفقاتهم وجميع صلاتهم وكان الأمر بمكة أولاً فيه بعض الاتصال في وقت نزول آيات الموادعة فندب أولئك المؤمنون قرابتهم من الكفار إلى أن يصلوهم وينفقوا عليهم مما رزقهم الله، فقالوا عند ذلك {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} قال الرماني: ونسوا ما يجب من التعاطف وتآلف المحقين وقالت فرقة: بل سبب الآية أن قريشاً شحت بسبب أزمة على المساكين جميعاً، مؤمن وغير مؤمن وندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة على المساكين فقالوا هذا القول، وقولهم يحتمل معنيين من التأويل: أحدهما يخرج على اختيارات لجهال العرب، فقد روي أن أعرابياً كان يرعى إبله فجعل السمان في الخصب والمهازيل في المكان الجدب فقيل له في ذلك فقال: أكرم ما أكرم الله وأهين ما أهان الله، فيخرج قول قريش على هذا المعنى كأنهم رأوا الإمساك عمن أمسك الله عنه رزقه، ومن أمثالهم كن مع الله كالمدبر، والتأويل الثاني أن يكون كلامهم بمعنى الاستهزاء بقول محمد صلى الله عليه وسلم إن ثم إلهاً هو الرزاق فكأنهم قالوا لم لا يرزقهم إلهك الذي تزعم أي نحن لا نطعم من لو يشاء هذا الإله الذي زعمت أطعمه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كما يدعي إنسان أنه غني ثم يحتاج إلى معونتك في مال فتقول له على جهة الاحتجاج والهزء به أتطلب معونتي وأنت غني أي على قولك، وقوله تعالى: {إن أنتم إلا في ضلال مبين} يحتمل أن يكون من قول الكفرة للمؤمنين، أي في أمركم لنا في نفقة أموالنا وفي غير ذلك من دينكم، ويحتمل أن يكون من قول الله عز وجل للكفر استئناف وزجرهم بهذا، ثم حكى عنهم على جهة التقرير عليهم قولهم {متى هذا الوعد} أي متى يوم القيامة الذي تزعم، وقيل أرادوا متى هذا العذاب الذي تهددنا به وسموا ذلك وعداً من حيث قيدته قرائن الكلام أنه في شر والوعد متى ورد مطلقاً فهو في خير وإذا قيدته بقرينة الشر استعمل فيه، والوعيد دائماً إنما هو في الشر، و{ينظرون} معناه ينتظرون، و{ما} نافية، وهذه الصيحة هي صيحة القيامة والنفخة الأولى في الصور رواه عبد الله بن عمر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أبي هريرة أن بعدها نفخة الصعق ثم نفخة الحشر وهي التي تدوم، فما لها من فواق، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأعرج وشبل وابن القسطنطين المكي {يَخَصِّمون} بفتح الياء والخاء وشد الصاد المكسورة، وأصلها يختصمون نقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت التاء الساكنة في الصاد، وقرأ نافع وأبو عمرو أيضاً {يَخْصِّمون} بفتح الياء وسكون الخاء وشد الصاد المكسورة وفي هذه القراءة جمع بين الساكنين ولكنه جمع ليس بجمع محض ووجهها أبو علي، وأصلها يختصمون حذفت حركة التاء دون نقل ثم أدغمت في الصاد، وقرأ عاصم والكسائي وابن عامر ونافع أيضاً والحسن وأبو عمرو بخلاف عنه {يَخِصِّمون} بفتح الياء وكسر الخاء وشد الصاد المكسورة أصلها يختصمون عللت كالتي قبلها، ثم كسرت للالتقاء، وقرأت فرقة {يِخِصِّمون} بكسر الياء والخاء وشد الصاد المكسورة عللت كالتي قبلها ثم أتبعت كسرة الخاء كسرة الياء، وفي مصحف أبي بن كعب {يختصمون} ومعنى هذه القراءات كلها أنهم يتحاورون ويتراجعون الأقوال بينهم ويتدافعون في شؤونهم، وقرأ حمزة {يخصمون} وهذه تحتمل معنيين أحدهما المذكور في القراءات أي يخصم بعضهم بعضاً في شؤونهم والمعنى الثاني يخصمون أهل الحق في زعمهم وظنهم، كأنه قال تأخذهم الصيحة وهم يظنون بأنفسهم أنهم قد خصموا وغللوا لأنك تقول خاصمت فلاناً فخصمته إذا غلبته، وقوله تعالى: {فلا يستطيعون توصية} عبارة عن إعجال الحال، والتوصية مصدر من وصى، وقوله تعالى: {ولا إلى أهلهم يرجعون} يحتمل ثلاث تأويلات: أحدها ولا يرجع أحد إلى منزله وأهله لإعجال الأمر بل تفيض نفسه حيثما أخذته الصيحة، والثاني معناه {ولا إلى أهلهم يرجعون} قولاً وهذا أبلغ في الاستعجال وخص الأهل بالذكر لأن القول معهم في ذلك الوقت أهم على الإنسان من الأجنبيين وأوكد في نفوس البشر، والثالث تقديره {ولا إلى أهلهم يرجعون} أبداً، فخرج هذا عن معنى وصف الاستعجال إلى معنى ذكر انقطاعهم وانبتارهم من دنياهم، وقرأ الجمهور {يَرجِعون} بفتح الياء وكسر الجيم، وقرأ ابن محيصن بضم الياء وفتح الجيم.